top of page

لَا تَكْسِرْ هَاتِفَكَ بل اُخرُجْ مِنْه

 

نعيش وحدة وسط الجموع، وغربة في أنحاء وطن وعقولنا ينهكها الإنهماك في لا شيء، وتركيزنا في شاشة صغيرة نحسب أن منها نخرج للعالم، يعزلنا عن كل العالم.

 لم نعد نستمتع برؤية الورد وجمال الخضرة وزرقة السماء وانسياب الماء ولم نعد نسمع زقزقة العصافير وخرير الماء وامتداد البحر وحفيف الشجر وغناء الموج.

‏ولم نعد نحدث جليسنا بوعي كامل واستماع شامل، ونسمع كل حرف وكلمة وتعبير، ولم نعد حتى نرى رؤية تعابير الوجه وحديث العينين.

ليس ذلك لأننا فقدنا أيا من حواسنا الخمس أو حُبِسنا في زنزانة انفرادية، بل لأننا أدخلنا أنفسنا في سجن بأيدينا وقيدنا حِسّنا وفكرنا وتركيزنا وانتباهنا في شاشة أصغر من أكفنا أو أيدينا لئلا يفوتنا شيء، فأخرجنا ‏أنفسنا من عالم نحسه وقيدناها في عالم لا نحسه.

 

هذا الإنهماك الكبير في هواتفنا وأجهزتنا اللوحية ساعات طويلة بل أكثر ساعات اليوم حتى أصبحت جزءا أساسيا لا نستطيع الفكاك منه ولو دقائق، أفقدنا الكثير مما حولنا.

‏هل فقدت هاتفك يوما بعد أن استيقظت الصباح وقبل أن تذهب للعمل؟ أو غاب عن ناظرك دقائقا وأنت تتناول أحد الوجبات مع عائلتك أو اصدقاءك؟

 لا تقل أنك لم تهتم وذهبت لعملك دون أن تقضي عشرين دقيقة تبحث عنه كالمجنون وكأنك فقدت فلذة كبدك!

أو ذهبت لأداء الصلاة في المسجد بعد أن تناولت عشاءك دون أن تبحث عن هاتفك في كل مكان في البيت حتى فاتتك الركعة الأولى!

ولماذا؟

لأنك تخشى أن يتصل بك أحدهم ولا ترد عليه، أو تصلك رسالة ولا تقرأها على الفور، أو يصلك بريدا الكترونيا فتتأخر في الرد عليه أو يرسل أحدهم خبرا في أحد مجموعات الواتساب ولا تكون أول القارئين، أو ينشر أحدهم شيئا في وسائل التواصل الاجتماعية الأخرى فيفوتك متابعته، أو أنك نشرت تغريدة في التويتر أو منشورا في الفيسبوك أو صورة في الانستجرام أو مقطعا في السناب فتتأكد كل خمس دقائق لترى من تابع، ومن قرأ ومن علق ومن رد ومن سأل ومن عارض ومن أيد !

 

هذا الإنهماك لئلا يفوتنا شي، فوت علينا التواصل الحسي مع جلسائنا ومع آباءنا وأطفالنا، ومع العالم المحيط بنا.

يشتكي الآباء انشغال الأولاد بهواتفهم أكثر من انشغالهم بالتواصل والتحدث معهم، وقد يتكلم الأب أو الأم والولد أوالبنت يسمع ولا يستمع ، وكيف يستمع ويداه وعيناه وفكره وتركيزه في هاتفه أكثر من تركيزه مع والديه.

ويشتكي الأبناء انهماك آباءهم وأمهاتهم في هواتفهم أكثر من انشغالهم بالتواصل والتكلم معهم.

 

" لقد أعدت كلامي مرارا وأنا أتحدث إليه ولكنه مشغولا بهاتفه في الرد على هذا وذاك أو تقليب صور أو مشاهدة مقطع وأنا أنظر إليه ولا ينظر إلى "

 

مشهد يتكرر معي ومعك وقد تكون أنت المتحدث وأنا المنهمك أو أنا المتحدث وأنت المشغول، ففاتنا التواصل المملوء بالمشاعر المتبادلة وانسجام الأحاديث وحضور الأحاسيس فالتقينا وكأننا لم نلتقِ وتحدثنا وكأننا لم نتحدث.

 يرسل لي رسالة في الواتساب، فلا اقرأها لأنني تركت الهاتف جانبا حين كنت مشغولا بعمل مشروع مع طفلتي فيرسل رسالة أخرى وأخرى وأخرى كل دقيقتين وكأنه يقول يجب عليك أن تقرأ رسالتي وترد، وقد يلومك أنك تتأخر في قراءة الرسائل أو الرد عليها.

وعندما قرأت الرسالة بعد فترة من الزمن لم تكن بشيء عاجل حتى لو قرأتها بعد يومين أو ثلاثة أو حتى لو لم أقرأها أبدا ولا يجب على أن أرد.

حينها تذكرت أية الاستئذان: " فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ "

 

أما المجموعات الواتسابية فتلك قصة أخرى.

سيتأكد راسل الرسالة متى وصلتك الرسالة وسيعرف تماما متى قرأتها وسيتوقع ردك، حتى وإن كان لا يجب عليك الرد أو لا يجب عليك أن ترد في وقت محدد، أو أنك قرأتها ولا ترغب في الرد أو فتحتها دون قصد وكنت مشغولا بشيء آخر ثم نسيتها أو أن طفلك كان يلعب بهاتفك وفتح كل الرسائل ولكنك لم تقرأها. رغم كل ذلك لقد أُثبت عليك أن الرسالة وصلتك وأنك قرأتها مع ما يرافق ذلك من تبعات صنعناها للتباعد الاجتماعي!

 

جربت أن أغلق الانترنت من هاتفي لمدة يومين حتى لا أستخدم الهاتف إلا للاتصال والرسائل النصية العادية التي لا يستخدمها إلا القليل وأنظر كيف تكون حياتي متحررا من شاشة صغيرة إلى عالم كبير وأنظر ماذا سيفوتني من أخبار وأحداث؟ ووافق ذلك ذهابي في رحلة قصيرة للاستجمام والاسترخاء.

 لم أشعر بسعادة كتلك من قبل، حين لم ألمس الهاتف إلا لإتصال مهم أو رسالة عادية ضرورية وانتقل تركيزي من الهاتف الى العالم المحيط بي، فاستمتعت وأنا أرى الطيور الجميلة في أغصان الأشجار تغرد بحرية وسعادة، واستمتعت برؤية الأشجار وأوراقها المتعددة الألوان والأشكال والأحجام وحفيفها مع كل نسمة هواء،  واستمتعت برؤية صفحات الأمواج تعانق صخور الشاطيء بصوت عذب يريح الفكر، واستمتعت برؤية زرقة السماء والسحب البيضاء التي ترسم لوحة جميلة تنعكس على مرآة الماء، واستمتعت برؤية الأطفال يلعبون ببراءة ويتراكضون وقلوبهم تنسجم بكل حب، واستمتعت بالحديث مع عائلتي أو اللعب مع أطفالي والإستماع إلى أحاديثهم دون أن يقطع ذلك قراءة رسالة أو متابعة خبر أو رد على أحد.

وبعد ما فتحت وسائل التواصل بعد يومين، لم أجد شيئا فاتني ولا رسالة مهمة تأخرت في قراءتها أو الرد عليها ولا خبرا كان يجب علي أن أعرفه في وقته . شعرت أن الإنشغال بالهاتف في كل مجلس وكل محفل وعند كل فرصة، ضيع علينا الكثير من الأوقات التي تحرر الفكر من شاشة صغيرة إلى كون كبير ومن تطبيقات تسلب تركيزك إلى مساحات فسيحة وأخذت اهتمامنا مما حولنا ظنا منا أننا نتواصل مع العالم ولكننا في الحقيقة ننعزل عن العالم.

 لندع الهاتف جانبا أحيانا ونستجمع فكرنا وانتباهنا وتركيزنا إلى من يتحدث إلينا، ولننساه في فترات عندما نكون مع آباءنا وأمهاتنا وأطفالنا، ولنصرف تركيزنا عنه عند خروجنا لنحرر أنفسنا وأرواحنا من حيز ضيق إلى فضاء أوسع.

لا تكسره لأنك ستحتاج إليه ولكن اخرج منه!

رمضان ١٤٤٢/ ابريل ٢٠٢١

bottom of page