top of page

طِفلة ٌبَيْنَ مَعْرَض الكِتاَبْ وَمَكّة وَالْجَنّة

 

 

 

لا يزال الكتاب الذي تركته لك هدية عندما تنهضين من تأثير المخدر في حقيبتي أتفحصه كل صباح وأنا قادم إلى المستشفى. كنت أأمل أن أرى عينيك مفتوحتين ‏لأشعر بالأمل.

 

‏"ميم" ‏طفلة لم تتجاوز الثلاثة عشر عاما. وحينما يبدأ الأطفال في هذا العمر يكتبون أحلامهم وتبدأ أفكارهم في النضج شيئا فشيئا، كانَ ورمٌ خبيثُ يكْتبُ أحلامه في جسدها وينضج شيئا فشيئا‏..

لكنها كانت قوية.. قوية جداً..

بدأت العلاج الكيماوي وأخذت الجلسة تلو الجلسة وكان تحملها الكثير واستجابتها غير اعتيادية، فرغم كل المضاعفات الكبيرة المرتبطة بجرعات الكيماوي، كانت طفلتنا قوية صامدة ولم تستسلم، بل استسلم الورم وبدأ بالتلاشي وكانت آخر أشعة مغناطيسية تشع بالأمل، إذ لا وجود للورم أمام إصرارها بالحياة..

هل هناك فرحة أكبر من أن يقال لمريض مصاب بالسرطان أن الورم تلاشى؟ وهل هناك سعادة يعيشها الأبوان أكثر من سعادتهما بخبر ينقله الطبيب أن الورم لم يعد له وجود وأن فرصة البقاء بلا كيماوي وبلا أدوية أصبحت وشيكة؟

وعندما يستقر الإيمان في قلب المؤمن بأن خالق المرض وخالق الشفاء هو الله وحده وأنه " لئن شكرتم لأزيدنكم "، كانت الصغيرة ذات العقل الكبير تنوي أنه حالما تنتهي جلسات العلاج وعندما تنتهي رحلة الحياة مع الورم، ستذهب إلى مكة المكرمة تمرغ جبهتها في تربة قدسية شكرا لله وامتنانا، وتشرب من ماء زمزم جرعات تسقي بها روحها المتعطشة الى السكون والطمأنينة وتلامس الحجر الأسود تعطر به نفسها لتغسل كل شي..

 الورم..

الكيماوي..

اليأس.. 

ولكن في ذات يوم زارت الحمى " ميم" وقليل من السعال لم تأبه له بل ظننتها وعكة عابرة سرعان ما أسقطتها في الفراش في غضون ثمانية وأربعين ساعة لينطلق بها والداها إلى طوارئ المستشفى.

كانت حالتها حرجة، فمستوى الأكسجين في مستويً متدَنٍ جدا، والتهاب قاسٍ اخترق رئتيها ليتبين بعد ذلك أنه بسبب بكتريا سلبية الغرام تسربت الى الدم فهوت بضغط الدم الي أدنى مستوياته.

كانت في حالة شبه غيبوبة، فلم يعد ضغط الدم كافٍ ليصل الى دماغها لتبقى متشبثة بالأمل، ولم يعد قلبها قادر لضخ ماء الحياة الى جسدها الذي  طالما كان قويا صامدا يعيش في حالة المستقبل المشرق.

كانت هناك مُمَدَةً في غرفة الإنعاش تغرق في صدمة أنتانية شديدة.

وكنت هناك أقطع الممر من العناية الى غرفة الطوارئ ركضا أطارد شريط الخيالات كسرعة البرق حيث تتراءى لي كل الصور..

الحياة والموت..

اليأس والأمل..

الصمود والانهيار..

البقاء والرحيل..

ساعات طوال من الإنعاش المتواصل..

مساعد التنفس الاصطناعي..

أدوية عالية الجرعات الداعمة للدورة الدموية..

مضادات حيوية..

وأكياس من الدم والصفائح لرفع مستوى الهيموجلوبين والصفائح التي كانت في مستوى لم يسبق لها ذلك.

خلايا الدم المناعية كانت في مستوى "صفر" .. ولم يكن أملنا صفرا..

 

تحدثت إلى أبيها الذي كان في حالة ذهول.. فالأحداث مرت سريعا كلمحة بصر.

قال: " أمس أصرت أن تذهب الى معرض الكتاب، واشترت بعض الكتب".

 ولكن لم تكد تبدأ بقراءة الأحرف الأولى منها حتى أتت لترقد في المستشفى لنقرأ كل مؤشراتها الحيوية ثانية بعد ثانية، ونقرأ قائمة الأدوية التي تحاول أن تنعش قلبها الذي بدا أنه يستسلم في آخر محطة.

 

الليلة الأولى كانت عصيبة.. عصيبة جدا.. 

على الطفلة البريئة. 

على الأبوين.

على الطاقم الطبي الذي لم يذق ولا دقيقة من طعم النوم في ليل حالك اشتدت ظلمته في محاولة لإنقاذ روح. 

" ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا "

 

لا يزال حب القراءة تلك تتردد في مخيلتي كلما تذكرت رحلتها الى معرض الكتاب واصرارها لاقتناء الكتب، فعزمت أن أهديها كتابا حالما تتعافى وتبدأ بفتح عينيها بعد غيبوبة أنهكتها. كنت أنتظر تلك اللحظة لأرسم أولى البسمات في محيا طفلة عشقت الكتب.

كان كتابا يطوي في صفحاته تغريدا في السعادة والتفاؤل والأمل.

 

بعد أيام قلائل بدأت علامات التحسن تظهر قليلا وفتحت عينيها وأول ما طلبته قلم وورقة اذ لم تستطع الكلام وأنبوب التنفس الاصطناعي لازال يمد رئتيها بأكسجين الحياة.

كَتَبَتْ: " أنا لم اتوضأ اليوم ". " أريد أن أصلي ". " أريد ماءً"

كانت تلك اللحظات مختلطة المشاعر..

مشاعر سعادة أن بصيص الشفاء بدأ يشرق.

ومشاعر إجلال لطفلة لم تتعدى الثالثة عشر ربيعا وقلبها معلق بالله حتى وهي في عمق مرض عضال.

ومشاعر خوف أن تلك اللحظات إشارة فقط أنها لن تعود.. وكانت فقط تعلمنا درسا أنه لا يغني من الله شيئا..

 

ولم يمكث بصيص الشفاء ذاك طويلا، اذ غاب سريعا كما يغيب الهلال أول الشهر.

وتعطلت الكثير من أعضاء الجسم بسبب الالتهاب الذي لم يعد يستجب لأي دواء.

فالرئتان أصيبت بالالتهاب الرئوي الناخر الذي  سببته العصويات السلبية الغرام.

ووظيفة القلب ضعفت ووظائف الكلى تعطلت نتيجة للصدمة الإنتانية الحادة.

كل أنواع المضادات الحيوية المعروفة بفعاليتها لم تجدِ شيئا لمدة أربعة عشر يوما.

ورغم كل المؤشرات السلبية واستنفاذ كل طاقات العلاج كنا لا زلنا نتمسك بالأمل، ومن لا يحيا بدون أمل!

الأمل الذي علمتنا إياه " ميم" من أول يوم تم تشخيصها بالورم.

والأمل الذي كتبته بيديها عندما فتحت عينيها للحظات.

مهما كانت حالة المريض صعبة ومعقدة فإن التعلق بالأمل ولو ببصيص منه يعطينا شحنة إيجابية بأن لا نتوقف.

وحتى عندما يتسلل شيء من اليأس عند البعض ليرى أن الرحيل رحمة لها لتستريح من هذه المعاناة، كنا نصارع من أجل أن تحيا بكل الطرق..

ولكن ليس كل أمنية تتحقق.

وليس كل أمل ينتهي ببشرى.

ربما لأن الله خبأ لنا أمنيات أعظم وآمال لا تنتهي.

 

وفي صباح جمعة ساكن..

كانت طفلة في العناية المركزة تتهيأ للرحيل في ركب الخالدين.

ورحلت هادئة وادعة مشتاقة للوضوء والصلاة.. لتشرب من كأس كان مزاجها كافورا.

رحلت ولا يزال الكتاب الذي تركته لها هدية في حقيبتي أتفحصه كل صباح وأنا قادم للمستشفى..

أهديته طبيبتها المتميزة التي عاشت معها رحلة التشخيص والعلاج وكانت لها قلبا ينبض حتى في آخر لحظات حياتها المفعمة بالتفاؤل والأمل.

 

 

د.سيف اولادثاني

رمضان  ١٤٤٤ه

ابريل ٢٠٢٣

بكتريا سلبية الغرام   Gram negative bacteria

صدمة أنتانية حادة Severe septic shock

الالتهاب الرؤي الناخر Necrotizing Pneuomonia

الأدوية الداعمة للدورة الدموية Inotropes and vasopressors

الاسم " ميم" اسم مستعار 

bottom of page