" شَغَفْ "
يشدني ذلك المكان كل يوم وكأنني على موعد معه بعد الغسق، كل غسق .. في ليلة شتوية ينتهي العمل فيها عند اشتداد الظلام. الظلام والوحدة كالقبر .. يحيطانك بخوف؛ ليس من المكان فحسب بل من المستقبل المجهول وكأنهما حجب لا ترى منهما الا عتمة. اتحرر كل ليلة بالهروب الى " تيم هورتون " في مدينة هاملتون في مقاطعة اونتاريوا بكندا؛ حيث الهجرة لدراسة الزمالة في تخصص العناية المركزة للأطفال. هناك اسرق زاوية اختفي فيها فيلاحقني ذلك الشعور أنني بلا هدف ولا طريق كل ما حل الظلام او رجعت الى الشقة بعد قضاء يوم مفعم بحيوية الأطفال الذين يرقدون مرضى فيشعرونك بالرحمة عندما ينامون و يلهمونك البسمة والأمل عندما يستيقظون.
.في تلك الزاوية اعتدت الذهاب كل يوم .. كل يوم " رشفة شاي" و " كتاب" فأشعر بالأمان.
الصخب المحيط بي - مع رائحة القهوة - من حديث كبار السن حولي يمدني بحيوية تجعلني أنسى أو على الأقل يؤجل شعوري بالتعب من يوم عمل شاق في شتاء قارس ينشر سربا من الفيروسات تغزوا الجهاز التنفسي للأطفال فيصعب عليهم نَفَسْ، ويهرعون إليك رغبة للنجاة .. لنفحة من ذرات أكسجين تعيد إليهم نشوة الحياة.
أؤمن أن لكل بقعة في هذه الأرض روح .. تتمازج مع روحك .. أو هو مجرد شعور بالألفة يتولد لديك كلما اعتدت المكان وألفته .. أو هي صورة تنطبع في أعماقك فلا تشعر بالغربة كلما رجعت الى ذات المكان وكأن بينك وبينه رباط أن لا تنساه ولا ينساك فَيُؤَمِّنْ وجودك.
وأما الشعور بالشوق أو الرغبة إلى أماكن تهرب إليها كلما طاف بك شعور بالخوف أو القلق أو الوحدة وتهرع إليها تبتغي نجاة تنقذك من صعوبة " نَفَسْ" أو تبحث فيها عن رشفة " أكسجين " حياة قبل أن تغرق ، أو فقط تذهب إليها لتشعر أن هناك حياة أو وجها آخر للحياة فذلك وصف آخر أو شعور مميز لا تدركه أي روح.
عدت إلى هنا .. بعد خمس سنوات، أنزوي في أحد المقاعد وحيدا .. أنتشي رشفة شاي .. تستشعر روحي تلك الألفة مجددا .. لتطوف بذاكرتي ألف صورة وبين أمواج الشاطئ في مسقط أيام كلية الطب في جامعة السلطان قابوس والمقاعد الخشبية في تيم هورتون في كندا أيام جامعة مكماستر، سبعة آلاف ميل .. تجمع بينهما صفحة كتاب وثلاثة حروف.
إنه " شَغَف"
كندا/ نوفمبر ٢٠٢٠