top of page

جُزءٌ مِنَ النَصِّ مَفْقُوْد..  فَلَا تَعْجَلْ!

 

 

يصله خبر عن صديق في لقاء عابر أو رسالة قصيرة؛ فيبني عليه حكما يؤثر على علاقتهما الممتدة إلى عقود من السنين، ويحدثه فلان عن قريب له و ماذا قال وماذا فعل فيحمله الغضب إلى حد قد يصل إلى قطيعة رحم، وينتشر مقطع مدته ثلاثون ثانية في وسائل التواصل لمتحدث يطرح فيه رأيا يبدوا أنه مثير للجدل فتتراكم عليه التعليقات وربما السباب والشتائم ويُقدح في وطنيته أو إخلاصه وقدراته، وتنشر إحدى القنوات الإعلامية  تغريدة من بضع كلمات اقتبستها من لقاء طويل مع متحدثة، فتثير لغطا كبيرا ونحكم على المتحدثة بضعف التفكير وقلة العلم والرغبة في نشر الجدل في المجتمع.

 

لعل بعضكم أو كلكم الذي استخدم الهواتف القديمة قبل خمسة عشر أو عشرين سنة من الآن يتذكر عبارة مزعجة عندما كانت الرسائل النصية هي الطريقة المتداولة للتواصل قبل أن تنتشر الهواتف الذكية وبرامج التواصل والانترنت في الهواتف، وعندما كانت كل رسالة نصية محدودة ب ٧٠ حرف فقط، فإذا أرسل لك أحدهم رسالة يفوق عدد حروفها ذلك؛ يصلك جزء من الرسالة فقط مذيلة بهذه العبارة: " جزء من النص مفقود ".

 قد يصلك الجزء المفقود لاحقا وقد لا يصل!

 

ورغم تطور طرق الإتصال وتعدد وسائل الوصال وتسهل طرق البحث والتحري والتدقيق، تُفقد اليوم كثير من النصوص فنبني أحكاما ونطلق تهما عند اطلاعنا على أجزاء صغيرة جدا من القصة رغم أن القصة طويلة ومتشعبة ومتفرعة قد يهمنا أولا يهمنا معرفتها.

 

يمارس الكثير من الناس غير ما أمرنا الله به حين قال: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين" ودون الخوض في تفسير الآية أو مناسبة النزول، ففيها توجيه: " فتبينوا" وذلك يحقق الأمان الاجتماعي حيث لا تلقى التهم والأحكام جزافا دون تثبت فتنعدم الثقة وتنتشر الأحقاد وتتشتت الصِلاة ويهتز التماسك الاجتماعي وما يتبع ذلك من آثار وعواقب، وكذلك الأمان الشخصي حيث بالتحري والتثبت يشعر الإنسان بالاطمئنان مع نفسه وعن غيره، عوضا عن الندم اذا انكشفت له الحقيقة يوما.

 

وأعود إلى المواقف أو الأحداث التي سردتها بداية كأمثلة حية واقعية قد مرت عليك كلها أو بعضها، فالخبر القصير الذي يخبرك به فلان عن فلان لا يعني أنه الحق الأبلج الذي يستحق أن تبني عليه حكما يوغر صدرك ويقطع صلتك أو تبني به فكرة عن فرد آخر قريبا كان أم بعيدا، فكم بنينا تصورنا عن كثير من الناس أو حكمنا على كثير من المواقف بناء على نقل غير دقيق أو تصور من شخص لا يعدوا أن يكون ظناً و" إن بعض الظن

إثم " وتذكر أن كل شخص يحكم على الموقف أو يفهم الأقوال أو يترجم الأفعال كما يراها هو ويتصورها هو، وليس شرطا كما عناها القائل خصوصا عندما يكثر الناقلون فيأتي الخبر عن فلان عن فلان عن فلان عن فلان ممزوجا  بكثير من التحسينات البديعية التي قد تغير المعنى تماما.

كما أنه ليست كل الأخبار تستحق أن تنقل وتتناقل خصوصا التي تقدح في هذا وذاك و" من حسن إسلام المرء، تركه مالا يعنيه "

 

كثيرا ما ينتشر في وسائل التواصل الاجتماعي – وما أكثرها الآن – مقاطع مبتورة ومختصرة وعبارات مختارة من لقاء طويل أو نقاش متفرع أو تصريح مُفَصّلْ أو محاضرة كاملة، فتعكس في أذهان الناس تصورا أو فكرة قد تحيد وتختلف تماما عن المعنى العام الذي قصده المتحدث أو الكاتب ويستعجل الكثير في الرد، والمعارضة، والقدح، والتجريم، والتأثيم، لمن نُقِلَ عنه ذلك المقطع أو العبارة ودون الرجوع إلى مصدر الخبر ودون التأكد من السياق الذي قيلت فيه تلك العبارة ودون الاستماع إلى كامل المقطع الرئيسي الذي فيه أكثر تفصيلا وتعليلا وشرحا، ودون معرفة الموقف أو الظروف المحيطة التي قيلت فيها تلك الكلمات، وكم أثار مثل ذلك نقاشا وجدالا واتهامات مبنية على نبأ غير صحيح أو نقل غير موفق أو ترجمة غير دقيقة أو اختصار أراد به الناقل إثارة جدل أو نشر فتنة أو زيادة شهرة أو زعزعة ثقة.

 

أرسل لي أحدهم مرة مقطعا قصيرا مدته دقيقتان لمتحدثة كانت تتحدث عن موضوع علمي أو فكرة طبية غريبة وطلب مني رأيي وتعليقي فاستمعت إلى المقطع وسارعت بالحكم أن تلك المعلومة ليس لها أساس من الصحة وأن المتحدثة تهرف ولا تعرف وأن ما تحدثت به لا يعدوا إلا أن يكون خيالا علميا.

ثم بعد فترة من الزمن أرسل لي شخص آخر نفس المقطع طالبا رأي في هذه الفكرة التي تبدوا غريبة، فتداركت الخطأ الذي وقعت فيه مسبقا وتساءلت: من هذه المتحدثة؟ ما درجتها العلمية؟ ما السياق التي تحدثت فيه عن هذا الموضوع؟ لمن كانت تلقي الحديث؟ لماذالا أبحث عن كامل المقطع وأرى ماذا كانت تقصد؟

 

وبعد انهماك في البحث والتقصي للأمانة العلمية والحكم العادل؛ استطعت أن أعرف من المتحدثة واستطعت أن أجد الندوة كاملة وكانت مدتها ساعتين فاستمعت إليها كاملة وفهمت من السياق أنها كانت تتحدث وتعني شيئا آخر غير الذي يظهر من استماع مقطع قصير مبتور، وما كنت سأفهمه لولا استماعي لكامل المقطع، كما أني أدركت أنها كانت تتحدث عن موضوع علمي معقد لجمهور من مختلف التخصصات العلمية والأدبية؛ فأرادت تبسيطه وكذلك كانت تحاول أن تترجم مصطلحات علمية الى اللغة العربية وربما خانها التعبير أو الترجمة ولم تعبر عن الفكرة بالكلمات المناسبة رغم أنها أجادت في حديثها الطويل فما شعرت بعد ذلك إلا بما قاله المولى عز وجل " فتصبحوا على ما فعلتم نادمين".

لماذا نشر الناشر مقطعا مدته دقيقتان من أصل ندوة كاملة مدتها ساعتان!! فأثار جدلا كبيرا حول الفكرة وقائلها في الوسط الاجتماعي والذي دفع قنوات إعلامية لعمل لقاء مع المتحدثة تستوضح ما أثاره ذلك المقطع من جدل وضوضاء بين الناس واضطرت المتحدثة التفسير والشرح تكرارا ومرارا لتبين المعنى الحقيقي والسياق الذي قيلت فيه، وما كنا لنحتاج ذلك لو أخلص الناقل في نقله ولم يتصيد عبارات مختارة ومقاطع مختصرة، وما كنا لنحتاج ذلك لو مارسنا التوجيه الرباني :" فتبينوا" إن كان يهمنا حقا ما قيل وما نقل، مع أنه في كثير من الأحيان لا يهمنا ولا يعنينا، وما كنا سنطلق أحكامنا جزافا  و نستعجل في التعليق أو القبول أو الرفض أو النقاش أو الجدال حول كل هذه الأخبار المختصرة والمقاطع المبتورة، لو وضعنا نصب أعيينا  أنه  قد يكون " جزء من النص مفقود ... "

كندا .. فبراير ٢٠٢١

bottom of page