top of page

" استشاري براتب طبيب عام !! "

 

قبل فترة قصيرة سافرت إلى تشيناي (الهند) بغية لعلاج أبي الذي عانى شهرا في أحد المستشفيات المرجعية عندما بدأ جسده بالهزال وقوته بالاضمحلال وأنفاسه تتعب وقلبه مع أي نشاط بدني بسيط ينصب فلم يجد الأطباء - مع بذل جهدهم - تشخيصا ولا علاجا وبذلوا قصارى جهدهم لتحويله إلى مستشفيات العاصمة حيث الأطباء المختصون والفحوصات الدقيقة والأجهزة المتوفرة ولكن لم يفلحوا في تحويله ونقله سبيلا، مرة بسبب عدم توفر السرير ومرة عدم الرد من الاستشاري الذي لابد أن يناقش الأطباء المتدربون معه لقبول الحالة ، ومرة لاستقبال حالة أخرى عاجلة من مستشفى آخر، ومرة لعدم استقرار الحالة فيجب الانتظار ومرة لإنشغال الدكتور المختص الذي سيستقبل حالته لإجراء مقابلات لأطباء جدد من خارج البلد لتوظيفهم.

وبعد ثلاثة أسابيع من الإنتظار قررت سفرا لطلب العلاج خارج حدود الوطن فلعل الله يكتب له علاجا وشفاء.

وكنا جلوسا مع كثير من الأخوة الذين سافروا للعلاج أيضا وكل له أسبابه ودواعيه وكنا نتناقش عن أسباب السفر للعلاج مع توفر المستشفيات الكبيرة في بلداننا والأجهزة الطبية المتطورة بل والكادر المتعلم من ذات البلد ثم قام أحدهم يحكي لنا قصة وعلامات الألم بادية في وجهه.

قال: ذهبت قبل مدة قصيرة إلى المريخ لزيارة إحدى الدول الهادئة الوادعة على ضفاف البحر وفي إحدى الليالي الباردة جلست في مطعم يقدم وجباته على رمال الشاطئ، فدخل ثلاثة من الشباب في منتصف الثلاثينات من أعمارهم تبدوا عليهم علامات الرزانة بعد أن ترجلوا عن سيارة قديمة من الماركات العادية جدا.

ولأني على مقربة منهم كنت أستمع كل أحاديثهم التي كانت كلها تذمر وتشكي من الجهة التي يعملون فيها.

وفهمت من حديثهم الآسي الذي أذهب من نفسي شهية الطعام أنهم " أطباء"!!

بدأ حديثهم بمزحة أحدهم على صاحب السيارة وأنه حان الأوان لتغييرها فقد تهالكت بعد أن تعدى عمرها عشر سنوات منذ أن أشتراها له أبوه وهو في كلية الطب.

وانبرى صاحبهم يحكي قصة مأساته وأنه إلى الآن لم يستطع امتلاك ولو شقة صغيرة يأوي فيها أولاده فقد ارتفعت الأسعار وكثرت المسؤوليات المالية وهو لا يزال طبيب عام منذ تخرجه من كلية الطب إلى الآن.

قال: درست سبع سنوات في كلية الطب ثم سنة الامتياز ثم عملت في أحد المراكز الصحية لمدة سنة وإذ كان لا بد أن يتقدم الإنسان علميا لخدمة المرضى والحصول على درجة أخصائي درست التخصص لمدة أربع سنوات وظنت أنه في اليوم التالي بعد حفل التخرج الذي حضره مسؤلون كبار من جهة " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " وحصولي على شهادة التخصص سوف يصدر قرارا بإعادة تعييني الى أخصائي ولكن صدمت عندما عرفت من زملائي أنه لا بد من انتظارالإعلان الذي سينشر في الجريدة الرسمية إن وجد الشاغر فقط !!

انتظرت اسبوعا كاملا بأيامه ولياليه وكل يوم ومنذ الساعة السادسة صباحا أقلب كل الجرائد الرسمية انتظارا لإعلان الشاغر ظنا مني أن كل متخصص قد هيأت له جهة عمله درجته ومكان عمله قبل دخوله التخصص أي قبل أربع سنوات !

فضحك أحد الزملاء طويلا ولم يستطع إكمال المكالمة عندما اتصلت به استفهمه عن تأخر الإعلان ففهمت بعدها أن الشاغر هو كالمطر، قد يأت به السحاب بعد سنين وقد تبخره الشمس قبل وصوله الأرض وقد يهطل في دولة أخرى أيضا.

عملت طبيبا متخصصا أمارس وظيفة الطبيب الأخصائي ودرجتي " طبيب عام " منتظرا المطر في الجريدة الرسمية وكان من العجب أن يوظف المستشفى الذي أعمل فيه أطباء من دول أخرى يعملون معي فأعلمهم وأدربهم وأبصرهم وأشرح لهم  وأنا " طبيب عام " وهم يعلقون على صدورهم بطاقات كتب عليها  " طبيب أخصائي "

فكانت هذه من أولى العجائب.

 

سافرت إلى كندا لإكمال التخصص الفرعي " الزمالة "  لمدة سنتين ورجعت بعدها رغم محاولاتهم الحثيثة لإقناعي بالعمل هناك وكدت أن أوافق لولا أن أبي ألقى علي محاضرة طويلة عن الوطن وأن خدمة المرضى في البلاد التي تربيت فيها أولى من أي مكان آخر فعدت يحدوني الأمل وعندما صعدت الطائرة نبهني المضيف استعدادا للإقلاع فربطت حزام العلم وجلس في المقعد الذي على يميني العزم وعلى يساري الهمة.

بدأت العمل في أكبر مستشفيات البلاد بكل همة ونشاط ورغبة ملحة في تحسين الكثير من الأشياء أولها تحسين الرعاية الطبية المقدمة للمرضى وثانيها تحسين التعليم الطبي للأطباء المتدربين وثالثها الرقي بدرجة البحوث الطبية.

أوكل إلى مهمات الطبيب الاستشاري بناء على شهادتي التي عدت أحملها من الخارج.

لقد كانت مهمات عملية علاجية ومهمات إدارية ، ومهمات تدريسية، وكنت أمرُّعلى المرضى صباحا وأقود فريقا كاملا وأنا استشاري ، وأناوب ليلا وأنا استشاري ، وأستقبل المرضى في العيادة الخارجية وأنا استشاري ، وأدرب الأطباء وأنا استشاري، ولكن بطاقة الطبيب التي أعلقها على صدري كتب فيها " طبيب عام "

ودرجتي المالية " طبيب عام "

حتى أصبحت أستحي من زملاءي في العمل وطلابي الذين أدربهم ومرضاي الذين أعالجهم والذين أقدم لهم نفسي كإستشاري علما ومعرفة وعملا، لكني واقعيا " طبيب عام " فأضحيت أقلب بطاقتي حتى لا يراها أحد وتجنبا للإحراج.

مرت سنتان أنتظر فيها تعديل مسماي الوظيفي ودرجتي المالية وأوراقي " كبقية زملاءي الأطباء" تتردد من مكتب إلى مكتب، ومن لجنة إلى لجنة ومن اجتماع الى اجتماع ومن جهة الى جهة  وعندما انفتح باب الأمل واجتزت مقابلة " الإستشاري" بنجاح وامتياز وظننت أنه قد حان اعطاء الأجير حقه بعد سنتين كاملتين من الإنتظار، وصلني خبر أن العاصفة  كسرت اللوح المكتوب فتناثر الأمل  وأن بيت المال ليس فيه للأطباء أي مال وأنه ليس لنا نصيب في المريخ.

وها أنا قد قاربت وصول الأربعين، ولا زلت أسكن في شقة مستأجرة وسيارتي هي السيارة التي كنت أذهب بها طالبا الى كلية الطب، فما بقت لي همة أحسن بها جودة الرعاية الصحية، ولا عزم أقدمه لمواصلة التعليم، فقررت أن أحزم أمتعتي مهاجرا إلى كوكب آخر أجد فيه حقي كإنسان، وأحفظ ما تبقى من ماء وجهي وأبذل بقايا الهمة لخدمة الإنسانية في مكان آخر من العالم الفسيح، فحجزت رحلة لأجلس في المقعد الأخير من الطائرة وتذكرتي كتب عليها " استشاري براتب طبيب عام"

bottom of page